الاثنين، 30 مارس 2015

086 -- 13032015 وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا


وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
على مدار التاريخ تقول هذه المقولة أصناف كثيرة من البشر وفي عصور مختلفة
نفس الكلام ونفس الفكرة وبأساليب مختلفة
«وَيَقُولُ الْإِنْسانُ: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟» ..
وَفِي الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ" (أخرجه البخاري في صحيحه)
«أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟» .
«فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ» .. ولن يكونوا وحدهم. فلنحشرنهم «وَالشَّياطِينَ» فهم والشياطين سواء. والشياطين هم الذين يوسوسون بالإنكار، وبينهما صلة التابع والمتبوع، والقائد والمقود..
وهنا يرسم لهم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثّو الخزي والمهانة:
«ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا» ..
وهي صورة رهيبة وهذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها. وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع..
«ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» ..
أين العتاة أين جبابرة الأرض أين الظلمة والقتلة أين الذين فتنوا الناس عن دينه
سيحضرون جميعا حول جهنم جثيا ثم يبدأ الله ابتدأ و ينتزع منهم انتزاعا الأشداء الأقوياء اللي كانوا مفكرين نفسهم سادة وباقي الخلق عبيد
سيعلمون من السادة و من العبيد والله يعلم من هم ويعلم من هم أولى بأن يصلوها، فلا يؤخذ أحد جزافا من هذه الجموع التي لا تحصى. والتي أحصاها الله
«ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا» .. فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين! وإن المؤمنين ليشهدون العرض الرهيب:
«وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» فهم يردون فيدنون ويمرون بها وهي تتأجج وتتميز وتتلمظ ويرون العتاة ينزعون ويقذفون.
«ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا»
فتزحزح عنهم وينجون منها لا يكادون! «وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» ..
ومن هذا المشهد المفزع الذي يجثو فيه العتاة جثو الخزي والمهانة، ويروح فيه المتقون ناجين. ويبقى الظالمون فيه جاثين.. من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على المؤمنين، ويعيرونهم بفقرهم، ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ. قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؟» ..
إنها النوادي الفخمة والمجامع المترفة والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد. وإلى جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إلا من الإيمان. لا أبهة ولا زينة، ولا زخرف، ولا فخامة.. هؤلاء هم سادة قريش تتلى عليهم آيات الله- على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم- فيقولون للمؤمنين الفقراء: «أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؟» الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد، أم الفقراء الذين يلتفون حوله. أيهم خير مقاما وأحسن ناديا؟ النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وإخوانهم من السادة، أم بلال وعمار وخباب وإخوانهم من المعدمين؟ أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر الذين لا قيمة لهم في مجتمع قريش ولا خطر؟ وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب؟ ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب النوادي الفخمة الضخمة والمكانة الاجتماعية البارزة؟.
إنه منطق الأرض. منطق المحجوبين عن اللهوحكمته.
 وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، عاطلة من عوامل الإغراء. ليقبل عليها من يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والزخرف، ومن يطلب المال والمتاع.
«وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً «1» » ..
فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم. ولم يعصمهم شيء من الله حين كتب عليهم الهلاك.
ألا إن هذا الإنسان لينسى. ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر ومصارع الغابرين من حوله تلفته بعنف وتنذره وتحذره، وهو سادر فيما هو فيه، غافل عما ينتظره مما لقيه من كانوا قبله وكانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا.
ثم يأمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يدعو عليهم في صورة مباهلة- بأن من كان من الفريقين في الضلالة فليزده الله مما هو فيه حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الآخرة:
«قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» ..
فهم يزعمون أنهم أهدى من أتباع محمد- صلى الله عليه وسلم- لأنهم أغنى وأبهى. فليكن! وليدع محمد ربه أن يزيد الضالين من الفريقين ضلالا، وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء.. حتى إذا وقع ما يعدهم وهو لا يعدو أن يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين، أو عذابهم الأكبر يوم الدين- فعندئذ سيعرفون: أي الفريقين شر مكانا وأضعف جندا. ويومئذ يفرح المؤمنون ويعتزون
 «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا»
خير من كل ما يتباهى به أهل الأرض ويتيهون.
لما نزلت هذه الآية وإن منكم إلا واردها ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى وجاءت المرأة فبكت وجاءت الخادم فبكت ثم جاء أهل البيت فجعلوا يبكون كلهم فلما انقطعت عبرته قال يا أهلاه ما يبكيكم قالوا لا ندري ولكنا رأيناك تبكي فبكينا قال آية نزلت على رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ينبئني فيها ربي أني وارد النار ولم ينبئني أني صادر عنها

السبت، 28 مارس 2015

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ


فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ 
بسم الله الرحمن الرحيم
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
خلف من بعدهم خلف، بعيدون عن الله. «أَضاعُوا الصَّلاةَ» فتركوها وجحدوها «وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ» واستغرقوا فيها
«فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» والغي الشرود والضلال، وعاقبة الشرود الضياع والهلاك.
وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} قَالَ: وادٍ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدُ الْقَعْرِ خَبِيثُ الطَّعْمِ.
ثم يفتح باب التوبة على مصراعيه تنسم منه نسمات الرحمة واللطف والنعمى:
«إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً. جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ. إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً. وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا. تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» ..
والتوبة ليست مجرد كلمات
التوبة انطراح كامل على أعتاب الله.. أعترف بذنبي أقول: نعم يا رب اتبعت الشهوات يا رب وكنت من المقصرين.. نعم يا رب أضعت الصلاة فتركتها بالكلية.. أضعت الصلاة فلم أهتم بها.. أضعت الصلاة فأخرت الصلاة عن وقتها.. أضعت الصلاة فلم أهتم بصلاة الجماعة.. أضعت الصلاة فلم أعقل منها شيء.. زهني بيكون شارد ومشغول بغيرك يا رب.. يا رب فعلت كل ذك ولكن عذري أني لم أفعله عنادا ولم أحاربك بالمعصية طمعا في رحمتك و ها أنا ذا أعود إليك عودة العبد الشارد إلى سيده وكلي يقين أنك لن تردني صفر اليدين.. يا رب ها أنا ذا أقف بين يديك لا حول لي ولا قوة.. أرجوك.. أطمع في جنتك وأخشى عذابك
وأطلب منك العون والمدد و التوفيق للعمل الصالح..
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
*عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت من عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها ، فهل لذلك من توبة ؟ قال : " فهل أسلمت ؟ " . قال : فأما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، قال : " تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن " . قال : وغدراتي وفجراتي ؟ قال : " نعم " . قال : الله أكبر ، فما زال يكبر حتى توارى .
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
إنما يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا. يدخلون الجنة للإقامة. الجنة التي وعد الرحمن عباده إياها فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها. ووعد الله واقع لا يضيع..
) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً» فلا فضول في الحديث ولا ضجة ولا جدال، إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الراضي. صوت السلام.. والرزق في هذه الجنة مكفول لا يحتاج إلى طلب ولا كد. ولا يشغل النفس بالقلق والخوف من التخلف أو النفاد:
«وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا»
«تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» .. فمن شاء الوراثة فالطريق معروف: التوبة والإيمان والعمل الصالح.
«وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا؟» ..
وتتضافر الروايات على أن قوله: «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ..» مما أمر جبريل عليه السلام أن يقوله للرسول- صلى الله عليه وسلم- ردا على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل. فاستوحشت نفسه، واشتاقت للاتصال الحبيب. فكلف جبريل أن يقول له: «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا:
«لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ» وهو لا ينسى شيئا، إنما ينزل الوحي عند ما تقتضي حكمته أن ينزل «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا»
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما» .. فلا ربوبية لغيره، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير.
«فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» .. اعبده واصطبر على تكاليف العبادة. وهي تكاليف الارتقاء إلى الأفق الأعلى والمثول بين يدي المعبود، والثبات في هذا المرتقى العالي. اعبده واحشد نفسك وعبىء طاقتك للاتصال به
«فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» ..
فجعل كل شيء في حياتك لله كل حركة وكل سكون لله
فاعبده واصطبر لعبادته.. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب..
«هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا؟» . هل تعرف له نظيرا؟ تعالى الله عن السمي والنظير..
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
حديث " إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها "

الخميس، 26 مارس 2015

في ظلال دعوة سيدنا إبراهيم لأبيه


في  ظلال دعوة سيدنا إبراهيم لأبيه
بسم الله الرحمن الرحيم
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
إنه الأدب الجم والذوق الرفيع في الدعوة..
 هي الرحمة وحسن الخلق وحسن البيان..
 هي الحكمة في توصيل الحق..
هي الصبر والحلم والحب
 هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل ابن مع أبيه بل كل داعية و كل مسلم دان لرب العالمين من أول لحظة نقرأ فيها الآيات تظهر لنا هذه الصفات في سيدنا إبراهيم فهذا هو إبراهيم الرضي الحليم.. إبراهيم الأواه الأواب تبدو وداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته التي يحكيها لنا الله في كتابه  تظهر هذه الصفات في تصرفاته ومواجهته للجهالة من أبيه..
 ويصف الله إبراهيم بأنه كان صديقا نبيا..
 ولفظة صديق تحتمل معنى أنه كثير الصدق وأنه كثير التصديق..
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا.»..
بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه، وعلمه إياه وهو يتحبب إليه فيخاطبه: «يا أَبَتِ»
ويسأله: «لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟»
فالأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى..
 فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان، بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان، لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا. إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش
هذه هي اللمسة الأولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لأبيه. ثم يتبعها بأنه لا يقول هذا من نفسه، إنما هو العلم الذي جاءه من الله فهداه. ولو أنه أصغر من أبيه سنا وأقل تجربة، ولكن المدد العلوي جعله يفقه ويعرف الحق فهو ينصح أباه الذي لم يتلق هذا العلم، ليتبعه في الطريق الذي هدي إليه:
«يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا» ..
ما هي المشكلة  في  أن يتبع الوالد ولده، إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى.. ولا سيما إن كان طريق الأب هو طريق ، وهو يريد أن يهديه إلى طريق الرحمن، فهو يخشى أن يغضب الله عليه فيقضي عليه أن يكون من أتباع الشيطان.
«يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ. إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا»
والشيطان هو الذي يغري بعبادة الأصنام من دون الله، فالذي يعبدها كأنما يتعبد الشيطان والشيطان عاص للرحمن. وإبراهيم يحذر أباه أن يغضب الله عليه فيعاقبه فيجعله وليا للشيطان وتابعا. فهداية الله لعبده إلى الطاعة نعمة وقضاؤه عليه أن يكون من أولياء الشيطان نقمة.. نقمة تقوده إلى عذاب أشد وخسارة أفدح يوم يقوم الحساب.
ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد:
«قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» .
أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم، وكاره لعبادتها ومعرض عنها؟ أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة؟! فهذا إنذار إن أنت أصررت على هذا
«لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ» ! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا. استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة: «وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» ..
بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى. وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب. وذلك شأن الإيمان مع الكفر وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر.
ولم يغضب إبراهيم الحليم. ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه:
«قالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا» .
سلام عليك.. فلا جدال ولا أذى ولا رد للتهديد والوعيد. سأدعو الله أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال وتولي الشيطان، بل يرحمك فيرزقك الهدى. وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي.
وإذا كان وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتزلك أنت وقومك، وأعتزل ما تدعون من دون الله من الآلهة. وأدعو ربي وحده، راجيا- بسبب دعائي لله- ألا يجعلني شقيا.
و اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره، فلم يتركه الله وحيدا. بل وهب له ذرية وعوضه خيرا:
«فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ. وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» ..
وإسحاق هو ابن إبراهيم، رزقه من سارة- وكانت قبله عقيما- ويعقوب هو ابن إسحاق.
«وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا» إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونسلهم..
«وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» .. فكانوا صادقين في دعوتهم، مسموعي الكلمة في قومهم. يؤخذ قولهم بالطاعة وبالتبجيل.
ولما كان من ذرية إسحاق موسى وهارون
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا. وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» ..
فيصف موسى بأنه كان مخلصا استخلصه الله له ومحضه لدعوته. وكان رسولا نبيا. والرسول هو صاحب الدعوة من الأنبياء المأمور بإبلاغها للناس. والنبي لا يكلف إبلاغ الناس دعوة إنما هو في ذاته صاحب عقيدة يتلقاها من الله
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ، إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» ..
وينوه من صفات إسماعيل بأنه كان صادق الوعد. وصدق الوعد صفة كل نبي وكل صالح، فلا بد أن هذه الصفة كانت بارزة في إسماعيل بدرجة تستدعي إبرازها والتنويه بها بشكل خاص.
وكان عند ربه مرضيا..
وأخيرا يختم السياق هذه الإشارات بذكر إدريس:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» .
القرآن يصف إدريس بأنه كان صديقا نبيا ويسجل له أن الله رفعه مكانا عليا. فأعلى قدره ورفع ذكره..
«أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ، وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا. إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا

الأربعاء، 25 مارس 2015

الحياة في ظلال قصة مريم


الحياة في ظلال  قصة مريم
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً. فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا؟ قالَ: كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا.. وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا»
وإن كان ولادة يحيى من أم عاقر وأب عقيم شيخ كبير عجيبة من العجائب  فإن ولادة عيسى ابن مريم أعجب وأغرب فإن ولادة عيسى ابن مريم أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، فهو حادثا فذا لا نظير له من قبله ولا من بعده.
وتبدأ القصة بهذا المشهد- فتاة عذراء. قديسة، وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد. لا يعرف عنها أحد إلا الطهر والعفة ولا يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح
ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي وتتواري من أهلها وتختفي عن أنظارهم..
وها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها. تفاجأ مفاجأة عنيفة.. إنه رجل مكتمل سوي:
«فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا»
.. وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله
«قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا»
فالتقيّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان..
«قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا»
ولنا أن نتخيل رجل يظهر لفتاة طاهرة عفيفة في خلوتها يخبرها أنه سيهب لها غلاما
ثم تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها! فتسأل في صراحة: كيف؟
«قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا؟» ..
هكذا في صراحة.. فهي والرجل في خلوة. والغرض من مباغتته لها قد صار واضحا. و تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاما؟ وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها: «إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ»
وكيف؟ وهي عذراء لم يمسسها بشر، وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام! ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاما إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر والأنثى. وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري.
«قالَ: كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَرَحْمَةً مِنَّا» ..
فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه، هين على الله. فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون، كل شيء هين،  هين على الله وآية للناس ورحمة لبني إسرائيل أولا وللبشرية جميعا،
بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين و مريم العذراء..
«وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» كيف؟ لا يذكر هنا عن ذلك شيئا «1» .
ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف شديد
«فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا» ..
فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق، بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة. ثم هي تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض الذي «أجاءها» إجاءة إلى جذع النخلة، واضطرها اضطرارا إلى الاستناد عليها. وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء
فقالت :  «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا»
فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت «نَسْياً» : تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى! وبينما هي كذلك
«فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ..
طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها. يطمئن قلبها ويصلها بربها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها.
ويدلها على حجتها وبرهانها! لا تحزني.. «قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» فلم ينسك ولم يتركك، بل أجرى لك تحت قدميك جدولا ساريا وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطبا. فهذا طعام وذاك شراب. «فَكُلِي وَاشْرَبِي» هنيئا. «وَقَرِّي عَيْناً» واطمئني قلبا. فأما إذا واجهت أحدا فأعلنيه بطريقة غير الكلام، أنك نذرت للرحمن صوما عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة. ولا تجيبي أحدا عن سؤال..
«فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ..!» .. فلنشهد هذا المشهد المثير:
إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم- الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة.. يرونها تحمل طفلا!
«قالُوا: يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا!» إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب: «يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» فظيعا مستنكرا. ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير: «يا أُخْتَ هارُونَ» النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل.
«ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» حتى تأتي بهذه الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء السوء والأمهات البغايا! وتنفذ مريم وصية الطفل العجيب التي لقنها إياها:
«فَأَشارَتْ إِلَيْهِ» .. فماذا نقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون عذراء تواجههم بطفل ثم تتبجح فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى الطفل ليسألوه عن سرها! «قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟» .
ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى:
«قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، آتانِيَ الْكِتابَ، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ، وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» .
وهكذا يعلن عيسى- عليه السلام- عبوديته لله. فليس هو ابنه كما تدعي فرقة. وليس هو إلها كما تدعي فرقة. وليس هو ثالث ثلاثة هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة.. ويعلن أن الله جعله نبيا، لا ولدا ولا شريكا. وبارك فيه، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته. والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته. فله إذن حياة محدودة ذات أمد. وهو يموت ويبعث. وقد قدر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا..
«ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ. سُبْحانَهُ.
تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولدا. والولد إنما يتخذه الفانون للامتداد، ويتخذه الضعاف للنصرة. والله باق لا يخشى فناء، قادر لا يحتاج معينا. والكائنات كلها توجد بكلمة كن.
وإذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن فيكون.. فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الإرادة لا بالولد والمعين.. وينتهي ما يقوله عيسى- عليه السلام- ويقوله حاله بإعلان ربوبية الله له وللناس، ودعوته إلى عبادة الله الواحد بلا شريك: «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..  
فلا يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للأوهام والأساطير.. وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير.
«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ» ..
ولقد جمع الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعا من الأساقفة- وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة- بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى اختلافا شديدا، وقالت كل فرقة فيه قولا..
قال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء.
وقال بعضهم:هو ابن الله،
وقال بعضهم: هو أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن والروح القدس.
وقال بعضهم: هو ثالث ثلاثة: الله إله وهو إله وأمه إله.
وقال بعضهم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته.
وقالت فرق أخرى أقوالا أخرى. ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول. فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين.
«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» .
ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم. بهذا التنكير للتفخيم والتهويل. المشهد الذي يشهده الثقلان: الإنس والجن، وتشهده الملائكة، في حضرة الجبار
«أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
فما أعجب حالهم! .. لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم! «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ» .. يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، فهي الغالبة على جوه، البارزة فيه. أنذرهم هذا اليوم الذي لا تنفع فيه الحسرات:
 «إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»
وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم، موصول بالغفلة التي هم فيها سادرون.
أنذرهم ذلك اليوم الذي لا شك فيه فكل ما على الأرض ومن على الأرض عائد إلى الله، عودة الميراث كله إلى الوارث الوحيد!:
«إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» ..

ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا


ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
نحن الآن على موعد مع رحلة عبر التاريخ سنسافر معا عبر الزمان في رحلة عمرها أقدم من 2015 سنه نحن الآن قبل ميلاد سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة السلام فالزمان قبل الميلاد والمكان في فلسطين وبالتحديد في بيت المقدس ويبدو لنا في المشهد الآن عمران وزوجته حنّة وابنتهما مريم وزوج خالتها زكريا كان زكريا من كبار الربانيين الذين كانوا يخدمون الهيكل. وكان عمران -والد مريم- إمامهم ورئيسهم، والكاهن الأكبر فيهم الذي يعلمهم تعاليم دينهم
يبدو لنا الآن سيدنا زكريا في المحراب بين يدي الله يناجي ربه بعيدا عن عيون الناس، بعيدا عن أسماعهم. في عزلة يخلص فيها لربه، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا.
يا رب لقد كبر سني وجرى بي الزمن وأصبحت ضعيفا يا رب وأنا أتوجه إليك وحدك وادعوك وحدك     «وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا»  فقد عودتي حينما أدعوك تستجيب  
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
ما زال نبي الله زكريا يبث شكواه إلى الله يا رب لقد ظهر بعد عمران موالي عهدتهم غير صالحين سيفسدون في الأرض يا رب ويتسببوا في ضياع دينك يا رب ح يبدلوا و يضلوا عبادك يا رب وهذه لم تنجب لي الولد «وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً. يا رب
«فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا»
لا جبارا ولا غليظا، ولا متبطرا ولا طماعا. اجعله رضي يا ب ( يرضى ويرضي ).
وينشر ظلال الرضا فيما حوله ومن حوله.
وهنا تجيء لحظة الإجابة.. فالرب ينادي عبده من الملأ الأعلى:
«يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا»..
وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء. فإذا هو يواجه الواقع.. إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا، وهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه: فكيف يا ترى سيكون له غلام؟ إنه ليريد أن يطمئن، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام:
«قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا؟»
إنه يواجه الواقع، ويواجه معه وعد الله. وإنه ليثق بالوعد، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه
«قالَ: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» .
وليس في الخلق هين وصعب على الله. ووسيلة الخلق للصغير والكبير، وللحقير والجليل واحدة
كن. فيكون.
والله هو الذي جعل العاقر لا تلد. وجعل الشيخ الفاني لا ينسل وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة سبب العقم، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل. وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء. وإن كان كل شيء هينا عليه.
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
ذلك ليعيشوا في مثل الجو الذي يعيش فيه، وليشكروا الله معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده
«يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ... »
لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبيا، ولما كان طلب الأب من الرب أن يهبه ولي يرث الدعوة وينشرها بين الناس فكان لزاما على الابن أن يأخذ الكتاب بقوة
 «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ»..
والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى، وعليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به ويحكمون. وقد ورث يحيى أباه زكريا، ونودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة
«وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً، وَكانَ تَقِيًّا»
فهذه هي المؤهلات التي زوده الله بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عند ما ناداه
آتاه الحكمة صبيا. فكان فذا في زاده، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده. فالحكمة تأتي متأخرة. ولكن يحيى قد زود بها صبيا.
وآتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به. والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق.
وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس، فيطهرها ويزكيها. ( وَكانَ تَقِيًّا )
موصولا بالله، متحرجا معه، مراقبا له، يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه.
كان يحيى عليه السلام غلاماً ذكياً، أحكم الله عقله، وآتاه الحكم صبياً، عاشقاً للعبادة، عاكفاً في محراب العلم، محصياً لمسائل التوراة، مستجلياً لغوا مضها، محيطاً بأصولها وفروعها، فيصلاً في أحكامها، قاضياً في معقولها، قوَّالاً في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يهاب صولة عاتٍ ظالم.

الثلاثاء، 24 مارس 2015

الحياة في ظلال سورة المدثر


الحياة في ظلال سورة المدثر
بسم الله الرحمن الرحيم
يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
نداء علوي جليل من الله العظيم إلى رسوله الكريم يا أيها المدثر يا أيها الملتحف في فراشك قم فقد مضى عهد الراحة قم لهذه المهمة الشاقة العسيرة التي ستكلف بها.
مهمة إنذار البشرية فقد ضل الناس ونسو الخالق وغفلوا عن الله وقست قلوبهم وشاع الظلم والفساد والانحراف وانقطعت صلة البشرية بالله وعبدوا أشياء لا قيمة لها ولا وزن لها ولا تضر ولا تنفع ولا تغني من الله شيئا قم فأنذر هؤلاء الناس وبلغهم أمر الله وبلغهم أن لهم إله واحدا عزيزا جبار قادر قاهر خالق هو الذي خلقهم وأنهم سيحاسبون عل كل شيء
وربك فكبر يجب أن يؤمن الإنسان أن كل القوي الموجودة من حوله لا قيمة لها ولا وزن لها ولا وجود لها أمام قوة الله العزيز الجبار ولذلك المؤمن لا يرى كبيرا إلا الله:الله أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم وحينما تستقر هذا الحقيقة في قلب المؤمن فلا ينبغي أن يبالي الرسول بأحد من الخلق، ولا أن يرهب سوى الله، فإن كل كبير مقهور تحت عظمته تعالى وكبريائه
رسالة الرسول إلى هرقل بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلامٌ عَلَى مِنَ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايِةَ الإِسْلامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيين
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي وثيابك فطهرها من النجاسات والمستقذرات، فإن المؤمن طيبٌ طاهر، لا يليق منه أن يحمل الخبيث وقال ابن عباس: كنَّى بالثياب عن القلب والمعنى وقلبك فطهر من الإِثم والمعاصي
{والرجز فاهجر} أي اترك عبادة الأصنام والأوثان ولا تقربها اهجر الجفاء، والسفه، وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين
{وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}
{وَلِرَبِّكَ فاصبر} أي اصبر على أذى قومك، ابتغاء وجه ربك
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِهَذَا الْخَبِيثِ، الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا، فَكَفَرَ بِأَنْعُمِ اللَّهِ وَبَدَّلَهَا كُفْرًا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وَقَدْ عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ حَيْثُ قَالَ تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أَيْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَحْدَهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا ولد، ثم رزقه الله تعالى: {مَالاً مَّمْدُوداً}
أَيْ وَاسِعًا كَثِيرًا {بنين شُهُوداً}  أي حضوراً عنده  {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أَيْ مَكَّنْتُهُ مِنْ صُنُوفِ الْمَالِ وَالْأَثَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً} أَيْ مُعَانِدًا وَهُوَ الْكُفْرُ عَلَى نِعَمِهِ بَعْدَ العلم
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)


كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)