الحياة في ظلال قصة مريم
«وَاذْكُرْ
فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا،
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً. فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ
لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ
تَقِيًّا. قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا.
قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ
بَغِيًّا؟ قالَ: كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا.. وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا»
وإن كان ولادة يحيى من أم عاقر وأب عقيم شيخ كبير
عجيبة من العجائب فإن ولادة عيسى ابن مريم
أعجب وأغرب فإن ولادة عيسى ابن مريم أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، فهو
حادثا فذا لا نظير له من قبله ولا من بعده.
وتبدأ القصة بهذا المشهد- فتاة عذراء. قديسة،
وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد. لا يعرف عنها أحد إلا الطهر والعفة ولا
يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح
ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي وتتواري
من أهلها وتختفي عن أنظارهم..
وها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها. تفاجأ
مفاجأة عنيفة.. إنه رجل مكتمل سوي:
«فَأَرْسَلْنا
إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا»
.. وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة
يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في
نفس الرجل، والخوف من الله
«قالَتْ:
إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا»
فالتقيّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن
دفعة الشهوة ونزغ الشيطان..
«قالَ:
إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا»
ولنا أن نتخيل رجل يظهر لفتاة طاهرة عفيفة في
خلوتها يخبرها أنه سيهب لها غلاما
ثم تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها! فتسأل في
صراحة: كيف؟
«قالَتْ:
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا؟» ..
هكذا في صراحة.. فهي والرجل في خلوة. والغرض من
مباغتته لها قد صار واضحا. و تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاما؟ وما يخفف من روع
الموقف أن يقول لها: «إِنَّما
أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ»
وكيف؟ وهي عذراء لم يمسسها بشر، وما هي بغي فتقبل
الفعلة التي تجيء منها بغلام! ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة
أخرى لأن يهبها غلاما إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر والأنثى. وهذا هو الطبيعي
بحكم التصور البشري.
«قالَ:
كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ،
وَرَحْمَةً مِنَّا» ..
فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه، هين
على الله. فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون، كل شيء هين، هين على الله وآية للناس ورحمة لبني إسرائيل
أولا وللبشرية جميعا،
بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين و مريم
العذراء..
«وَكانَ
أَمْراً مَقْضِيًّا» كيف؟ لا يذكر هنا عن ذلك شيئا «1» .
ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها فتعرض هذه
العذراء الحائرة في موقف شديد
«فَحَمَلَتْهُ
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ
النَّخْلَةِ قالَتْ: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا»
..
فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية
والأخلاق، بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة. ثم هي
تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض الذي «أجاءها» إجاءة إلى
جذع النخلة، واضطرها اضطرارا إلى الاستناد عليها. وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة
العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء
فقالت : «يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا
وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا»
فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها،
ونلمس مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت «نَسْياً» : تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم
تلقى بعد ذلك وتنسى! وبينما هي كذلك
«فَناداها
مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي:
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ..
طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها. يطمئن قلبها
ويصلها بربها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها.
ويدلها على حجتها وبرهانها! لا تحزني.. «قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ
سَرِيًّا» فلم ينسك ولم يتركك، بل أجرى لك تحت قدميك جدولا ساريا وهذه
النخلة التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطبا. فهذا طعام وذاك شراب. «فَكُلِي وَاشْرَبِي»
هنيئا. «وَقَرِّي عَيْناً»
واطمئني قلبا. فأما إذا واجهت أحدا فأعلنيه بطريقة غير الكلام، أنك نذرت للرحمن
صوما عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة. ولا تجيبي أحدا عن سؤال..
«فَأَتَتْ
بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ..!» .. فلنشهد هذا المشهد المثير:
إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم- الطاهرة
العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة.. يرونها تحمل طفلا!
«قالُوا:
يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ
امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا!» إن ألسنتهم لتنطلق
بالتقريع والتأنيب: «يا
مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» فظيعا مستنكرا. ثم يتحول السخط
إلى تهكم مرير: «يا أُخْتَ
هارُونَ» النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه
بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل.
«ما كانَ
أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» حتى تأتي بهذه
الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء السوء والأمهات البغايا! وتنفذ مريم وصية الطفل
العجيب التي لقنها إياها:
«فَأَشارَتْ
إِلَيْهِ» .. فماذا نقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون عذراء
تواجههم بطفل ثم تتبجح فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى الطفل
ليسألوه عن سرها! «قالُوا:
كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟» .
ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى:
«قالَ:
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، آتانِيَ الْكِتابَ، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي
مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ، وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ
حَيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا، وَالسَّلامُ
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» .
وهكذا يعلن عيسى- عليه السلام- عبوديته لله. فليس
هو ابنه كما تدعي فرقة. وليس هو إلها كما تدعي فرقة. وليس هو ثالث ثلاثة هم إله
واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة.. ويعلن أن الله جعله نبيا، لا ولدا ولا شريكا.
وبارك فيه، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته. والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته.
فله إذن حياة محدودة ذات أمد. وهو يموت ويبعث. وقد قدر الله له السلام والأمان
والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا..
«ذلِكَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ. قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ. سُبْحانَهُ.
تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولدا. والولد
إنما يتخذه الفانون للامتداد، ويتخذه الضعاف للنصرة. والله باق لا يخشى فناء، قادر
لا يحتاج معينا. والكائنات كلها توجد بكلمة كن.
وإذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن فيكون.. فما يريد
تحقيقه يحققه بتوجه الإرادة لا بالولد والمعين.. وينتهي ما يقوله عيسى- عليه
السلام- ويقوله حاله بإعلان ربوبية الله له وللناس، ودعوته إلى عبادة الله الواحد
بلا شريك: «وَإِنَّ اللَّهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..
فلا يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للأوهام
والأساطير.. وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير.
«فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ» ..
ولقد جمع الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعا من
الأساقفة- وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة- بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين
أسقفا فاختلفوا في عيسى اختلافا شديدا، وقالت كل فرقة فيه قولا..
قال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا
وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء.
وقال بعضهم:هو ابن الله،
وقال بعضهم: هو أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن
والروح القدس.
وقال بعضهم: هو ثالث ثلاثة: الله إله وهو إله وأمه
إله.
وقال بعضهم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته.
وقالت فرق أخرى أقوالا أخرى. ولم يجتمع على مقالة
واحدة أكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول. فمال إليه الإمبراطور ونصر
أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين.
«فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ
يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ» .
ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم. بهذا التنكير
للتفخيم والتهويل. المشهد الذي يشهده الثقلان: الإنس والجن، وتشهده الملائكة، في
حضرة الجبار
«أَسْمِعْ
بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ» ..
فما أعجب حالهم! .. لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون
السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر
وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم!
«وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ» .. يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض
للحسرة لا شيء فيه سواها، فهي الغالبة على جوه، البارزة فيه. أنذرهم هذا اليوم
الذي لا تنفع فيه الحسرات:
«إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ
فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»
وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم، موصول
بالغفلة التي هم فيها سادرون.
أنذرهم ذلك اليوم الذي لا شك فيه فكل ما على الأرض
ومن على الأرض عائد إلى الله، عودة الميراث كله إلى الوارث الوحيد!:
«إِنَّا
نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق